فصل: المسألة الأولى: (في الخطاب في قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ}):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)}
أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل كلهم من طريقه قال: حدثني الزهري، ومحمد بن يحيى بن حيان، وعاصم بن عمرو بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمر، قالوا: لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله بن ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش إلى من كان معه تجارة. فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدًا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا أن ندرك منه ثأرًا. ففعلوا. ففيهم كما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنزل الله: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله} إلى قوله: {والذين كفروا إلى جهنم يحشرون}.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله} قال: نزلت في أبي سفيان بن حرب.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم...} إلى قوله: {أولئك هم الخاسرون} قال: في نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد.
وأخرج ابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن سعيد بن جبير في قوله: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل...} الآية. قال: نزلت في أبي سفيان بن حرب، استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة يقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب، فأنزل الله هذه الآية، وهم الذين قال فيهم كعب بن مالك رضي الله عنه:
وجئنا إلى موج من البحر وسطه ** أحابيش منهم حاسر ومقنع

ثلاثة آلاف ونحن نصية ** ثلاث مئين إن كثرن فأربع

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحكم بن عتيبة في قوله: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله} قال: نزلت في أبي سفيان، أنفق على مشركي قريش يوم أحد أربعين أوقية من ذهب، وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالًا من ذهب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه في قوله: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة} يقول: ندامة يوم القيامة.
وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه في قوله: {والذين كفروا إلى جهنم يحشرون} يعني النفر الذين مشوا إلى أبي سفيان، وإلى من كان له مال من قريش في تلك التجارة، فسألوهم أن يقووهم بها على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلوا.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن شهر بن عطية رضي الله عنه {ليميز الله الخبيث من الطيب} قال: يميز يوم القيامة ما كان لله من عمل صالح في الدنيا، ثم تؤخذ الدنيا بأسرها فتلقى في جهنم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {فيركمه جميعًا} قال: يجمعه جميعًا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {لِيَمِيزَ الله الخبيث} قد تقدَّم الكلامُ فيه في آل عمران: [179].
والمعنى: ليميزَ اللَّهُ الفريق الخبيث من الكُفَّارِ من الفريق الطَّيب من المؤمنين، فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعًا، أي: يجمعهم ويضمُّهم حتَّى يتراكموا.
{أولَئِكَ} إشارةً إلى الفريق الخبيثِ، وقيل: المرادُ في جهاد الكفار، كإنفاقِ أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول عليه السلام، فيضم تعالى تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنَّم، ويعذبهم بها، كقوله تعالى: {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة: 35] فاللاَّمُ في قوله: {لِيَمِيزَ الله الخبيث} على القول الأوَّلِ متعلقة بقوله تعالى: {يُحْشَرُونَ} أي: يحشرون ليميز اللَّهُ الفريق الخبيث من الفريق الطيب، وعلى القول الثاني متعلقة بقوله: {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} و{يَجْعَلَ} يحتمل أن تكون تصييريةً، فتنصبَ مفعولين، وأن تكون بمعنى الإلقاء، فتتعدَّى لواحد، وعلى كلا التقديرين ف {بَعْضَهُ} بدل بعضٍ من كل، وعلى القول الأوَّلِ يكون {عَلَى بعضٍ} في موضع المفعول الثَّاني، وعلى الثَّاني يكون متعلقًا بنفس الجَعْل، نحو قولك: ألقَيْتَ متاعك بعضه على بعض.
وقال أبُو البقاءِ، بعد أن حكم عليها بأنَّها تتعدَّى لواحدٍ:
وقيل: الجار والمجرور حالٌ تقديره: ويجعل الخبيث بعضه عاليًا على بعض؟.
ويقال: مَيَّزْتُه فتمَيَّزَ، ومزْنُه فانمازَ، وقرئ شاذًا: {وامتازوا اليوم} [يس: 59]؛ وأنشد أبو زيدٍ: [البسيط]
لمَّا نَبضا اللَّهُ عَنِّي شرَّ غُدْرَتِهِ ** وانْمَزْتُ لا مُنْسِئًا ذُعْرًا ولا وَجِلا

وقد تقدَّم الفرق بين هذه الألفاظ في آل عمران [179].
قوله: {فَيَرْكُمَهُ} نسقٌ على المنصوبِ قبله، والرَّكْمُ جمعك الشَّيء فوق الشيء، حتى يصير رُكَامًا مركومًا كما يُركم الرمل والسحاب، ومنه: {سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} [الطور: 44] والمُرْتَكَم: جَادَّة الطريق للرَّكْم الذي فيه أي: ازدحام السَّبابلة وآثارهم، و{جَمِيعًا} حالٌ، ويجوزُ أن يكون توكيدًا عند بعضهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)}
الخبيث ما لا يصلح لله، والطيب ما يصلح لله.
الخبيث ما حكم الشرعُ بقبحه وفساده، والطيب ما شهد العلم بحسنه وصلاحه.
ويقال الخبيث الكافرُ، والطيِّبُ المؤمِنُ.
الخبيثُ ما شَغَل صاحبَه عن الله، والطيِّبُ ما أوصل صاحبه إلى الله.
الخبيثُ ما يأخذه المرءُ وينفقه لحظِّ نفسه، والطيب ما ينفقه بأمر ربه.
الخبيث عملُ الكافرِ يُصَوَّر له ويُعَذَّب بإِلقائه عليه، والطيِّبُ عملُ المؤمن يُصَورُ له في صورةٍ جميلة فيحمل المؤمن عليه. اهـ.

.قال التستري:

وقوله: {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} [37] قال: الخبيث على ضروب: الكفر والنفاق والكبائر، والطيب على ضروب: وهو الإيمان، فيه درجة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، فأخبر الله تعالى أنه يميز بينهما، ثم يجعل الخبيث بعضه على بعض على مقدار ذنوبهم طبقة طبقة، كما قال: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145]. اهـ.

.تفسير الآية رقم (38):

قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما بين ضلالهم في عبادتهم البدنية والمالية، وكان في كثير من العبارات السالفة القطع للذين كفروا بلفظ الماضي بالشقاء، كان ذلك موهمًا لأن يراد من أوقع الكفر في الزمن الماضي وإن تاب، فيكون مؤيسًا من التوبة فيكون موجبًا للثبات على الكفر، قال تعالى متلطفًا بعباده مرشدًا لهم إلى طريق الصواب مبينًا المخلص مما هم فيه من الوبال في جواب من كأنه قال: أما لهم من جبلة يتخلصون بها من الخسارة {قل للذين} أي لأجل الذين {كفروا} أني أقبل توبة من تاب منهم بمجرد انتهائه عن حاله {إن ينتهوا} أي يتجدد لهم وقتًا ما الانتهاء عن مغالبتهم بالانتهاء عن كفرهم فيذلوا لله ويخضعوا لأوامره {يغفر لهم} بناه للمفعول لأن النافع نفس الغفران وهو محو الذنب {ما قد سلف} أي مما اجترحوه كائنًا ما كان فيمحي عينًا وأثرًا فلا عقاب عليه ولا عتاب {وإن} أي وإن يثبتوا على كفرهم و{يعودوا} أي إلى المغالبة {فقد مضت سنت} أي طريقة {الأولين} أي وجدت وانقضت ونفذت فلا مرد لها بدليل ما سمع من أخبار الماضين وشوهد من حال أهل بدر مما أوجب القطع بأن الله مع المؤمنين وعلى الكافرين، ومن كان معه نصر، ومن كان عليه خذل وأخذ وقسر {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21] {ولينصرن الله من ينصره} [الحج: 40] {والعاقبة للمتقين} [القصص: 128] وإن كانت الحرب سجالًا. اهـ.

.قال الفخر:

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}
اعلم أنه تعالى لما بين صلاتهم في عباداتهم البدنية، وعباداتهم المالية، أرشدهم إلى طريق الصواب وقال: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ}

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ} فيه مسائل:

.المسألة الأولى: [في الخطاب في قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ}]:

قال صاحب الكشاف: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي قل لأجلهم هذا القول، وهو: {إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ} ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تنتهوا يغفر وقال ابن مسعود هكذا.

.المسألة الثانية: [فيما إذا أصر الكفار على كفرهم وعداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم]:

المعنى: أن هؤلاء الكفاء إن انتهوا عن الكفر وعداوة الرسول، ودخلوا الإسلام والتزموا شرائعه غفر الله لهم ما قد سلف من كفرهم وعداوتهم للرسول وإن عادوا إليه وأصروا عليه فقد مضت سنة الأولين.
وفيه وجوه: الأول: المراد فقد مضت سنة الأولين منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر.
الثاني: فقد مضت سنة الأولين الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الذين قد مروا فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا.
الثالث: أن معناه أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وهي قوله: {كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21] {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} [الصافات: 171] ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون} [الأنبياء: 105].

.المسألة الثالثة: [هل تقبل توبة الزنديق أم لا؟]:

اختلف الفقهاء في أن توبة الزنديق هل تقبل أم لا؟ والصحيح أنها مقبولة لوجوه: الأول: هذه الآية، فإن قوله: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} يتناول جميع أنواع الكفر.
فإن قيل: الزنديق لا يعلم من حاله أنه هل انتهى من زنذقته أم لا؟
قلنا: أحكام الشرع مبنية على الظواهر، كما قال عليه السلام: «نحن نحكم بالظاهر» فلما رجع وجب قبول قوله فيه.
الثاني: لا شك أنه مكلف بالرجوع ولا طريق له إليه إلا بهذه التوبة فلو لم تقبل لزم تكليف ما لا يطاق.
الثالث: قوله تعالى: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات} [الشورى: 25].

.المسألة الرابعة: [هل الكفار مخاطبون بفروع الشرائع؟]:

احتج أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع، قالوا لأنهم لو كانوا مخاطبين بها، لكان إما أن يكونوا مخاطبين بها مع الكفر أو بعد زوال الكفر.
والأول باطل بالإجماع، والثاني باطل؛ لأن هذه الآية تدل على أن الكافر بعد الإسلام لا يؤاخذ بشيء مما مر عليه في زمان الكفر وإيجاب قضاء تلك العبادات ينافي ظاهره هذه الآية.

.المسألة الخامسة: [هل يلزم المرتد إذا أسلم قضاء العبادات التي تركها في حالة الردة وقبلها؟]:

احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات التي تركها في حالة الردة وقبلها، ووجه الدلالة ظاهر.

.المسألة السادسة: [في أن الإسلام يجب ما قبله]:

قال عليه السلام: «الإسلام يجب ما قبله» فإذا أسلم الكافر لم يلزمه قضاء شيء من العبادات البدنية والمالية وما كان له من جناية على نفس أو مال فهو معفو عنه وهو ساعة إسلامه كيوم ولدته أمه.
وقال يحيى بن معاذ الرازي في هذه الآية أن توحيد ساعة يهدم كفر سبعين سنة، وتوحيد سبعين سنة كيف لا يقوى على هدم ذنب ساعة؟. اهـ.